فصل: ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس

ثم سعى في الفتنة بينهما أنطفتر أبو هيردوس وكان من عظماء بنى إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل وكان ذا شجاعة وبأس وله يسار وقنية من الضياع والمواشي‏.‏ وكان الإسكندر قد ولاه على بلاد أدوم وهي جبال الشراة‏.‏ فأقام في ولايتها سنين وكثر ماله وأنكحوه منهم فكان له منها أربعة من الأبناء وهم‏:‏ فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف وبنت اسمها سلومث‏.‏ وقيل أن أنطفتر لم يكن من بني إسرائيل وإنما كان من أدوم وربي في جملة بني حشمناي وبيوتهم‏.‏ فلما مات الإسكندر وملكت زوجته الإسكندرة عزلته عن جبال الشراة فأقام بالقدس‏.‏ حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس وكان بين هرقانوس وأنظفتر مودة وصحبة‏.‏ فغص أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر وهم بقتله فانفض عنه وأخذ في التدبير على أرستبلوس‏.‏ وفشا في الناس تبغضه إليهم وينكر تغلبه ويذكر لهم أن هرقانوس أحق بالملك منه ثم حذر هرقانوس من أخيه وخيل إليه أنه يريد قتله‏.‏ وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك حتى تمكن منه الخوف‏.‏ ثم أشار عليه بالخروج إلى ملك العرب هرثمة وكان يحب هرقانوس فعقد معه عهداً إلى ذلك‏.‏ ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه أنظفتر ثم دعوا قرثمة إلى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة‏.‏ وتزاحفوا ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس فرجع هارباً إلى القدس‏.‏ ونازلهم هرقانوس وهرثمة واتصلت الحرب وطال الحصار‏.‏ وحضر عيد الفطير وافتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها فاشتطوا في الثمن ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئاً‏.‏ وقتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه وامتنع فقتلوه ووقع فيهم الوباء فمات منهم أمم‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب وكانوا في طاعة الروم فانتقضوا عليهم في هذه المدة وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس‏.‏ فبعث الروم قائدهم فمقيوس فخرج لذلك من رومية‏.‏ وقدم بين يديه قائده سكانوس فطوع الأرمن ولحق دمشق ثم لحقه فمقيوس ونزل بها‏.‏ وتوجهت إليه وجوه اليهود في أثيرهم وبعث إليه أرستبلوس من القدس وهرقانوس من مكان حصاره كل واحد منهما يستنجده على أخيه‏.‏ وبعثوا إليه بالأموال والهدايا فأعرض عنها وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس ورحل معه هرقانوس وأنظفتر وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس وألح في الطلب وجاء أنظفتر إلى فمقيوس بغير مال ولا هدية فنكث عنه فمقيوس فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه وضمن له طاعة هرقانوس الذي هو الكهنوت الأعظم‏.‏ ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن يتحيل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر‏.‏ وعلي أن يحملوا الخراج عند حصول أمرهم فضمن أنظفتر ذلك وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس‏.‏ وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاؤوا شاكين من أرستبلوس فأمره فمقيوس من إنصافهم فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس‏.‏ وسار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال فأقاله وبذل له الأموال على أن يعينه على أخيه ويحمل له ما في الهيكل من الأموال والجواهر وبعث معه قائده لذلك فمنعهم الكهنونية وثارت بهم العامة وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه فغضب فمقيوس وتقبض لحيته على أرستبلوس‏.‏ وركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه وقتل جماعة من أصحابه فرجع وأقام عليهم ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس وهرقانوس‏.‏ وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر وامتنع الهيكل عليه فأقام يحاصره أياماً وصنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه واقتحمه عنوة‏.‏ ووجد الكهنونية على عبادتهم وقرباتهم مع تلك الحرب ووقف على الهيكل فاستعظمه ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره‏.‏ وملك عليهم هرقانوس وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة ورفع يد اليهود عن جميع الأمم الذين كانوا في طاعتهم ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو حشمناي ورجع إلى رومة‏.‏ واستخلف هرقانوس وأنظفتر على المقدس وأنزر معهما قائده سكانوس الذي قدمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عندما خرج من رومية وحمل أرستبلوس وابنيه مقيدين معه وهرب الثالث من بنيه وكان يسمى الإسكندر ولحقه فلم يظفر به‏.‏ ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهباً إلى مكانه خرج هرقانوس وأنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم فخالفهم الإسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس وكان متغيباً بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح فدخل إلى المقدس وملكة اليهود عليهم وبنى ما هدمه فمقيوس من سور الهيكل واجتمع إليه خلق كثير ورجع هرقانوس وأنظفتر‏.‏ فسار إليهم الإسكندر وهزمهم وأثخن في عساكرهم‏.‏ وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس فلحق به واستنصره على الإسكندر فسار معه إلى القدس وخرج إليهم الإسكندر فهزموه ومضى إلى حصن له يسمى الإسكندرونة واعتصم به‏.‏ وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه وسار كينانوس قائد الروم إلى الإسكندر فحاصره بحصنه واستأمن إليه وعفا عنه وأحسن إليه‏.‏ وفي أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه برومية وابنه أنطقنوس واجتمع إليه فحاربه كينانوس وهزمه وحصل في أسره فرده إلى محبسه برومية ولم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على رومية واستحدث الملك في الروم وخرج فمقيوس من رومية إلى نواحي عمله وجمع العساكر لمحاربة قيصر فأطلق أرستبلوس من محبسه وأطلق معه قائدين في اثني عشر ألف مقاتل وسرحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس‏.‏ وكتب فمقيوس إلى أنظفتر ببيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس فبعث قوماً من اليهود لقوه في بلاد الأرمن ودشوا له سماً في بعض شرابه كان فيه حتفه‏.‏ وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب رومية في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا علي ملكهم تلماي وطردوه وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم فسار إليهم واستنفر معه أنظفتر فغلبهم وقتلهم‏.‏ ورد تلماي إلي ملكه واستقام أمر مصر ورجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدد الملك لهرقانوس وقدم أنظفتر مدبر المملكة وسار إلى رومية‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائداً منهم يسمى عرنبوس وبعثوه لحربهم فمر بالقدس ودخل إلى الهيكل وطالب الكهنوت بما فيه من المال وكان يسمى ألعازر من صلحاء اليهود وفضلائهم‏.‏ فقال له إن كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك فاشتد عليه فقال‏:‏ أعطيك ثلثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل‏.‏ ودفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الذي تجدد‏.‏ وكان وزنها ثلثمائة فأخذها ونقض القول وتعدى على الهيكل‏.‏ وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك والأمم وجميع آلات القدس‏.‏ وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه وأخذوا جميع ما كان معه وقتل واستولت الفرس على بلاد الأرمن‏:‏ دقشق وحمص وحلب وما إليها‏.‏ وبلغ الخبر إلى الروم فجهزوا قائداً عظيماً في عساكر جمة اسمه كسناو فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها وساروا إلى القدس‏.‏ فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وأنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرقانوس‏.‏ ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم ورد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة وكانوا اثنين وعشرين ملكاً من قال ابن كريون‏:‏ ثم ابتدأ أمر القياصرة وملك على الروم يولياس ولقبه قيصر لأن أمه ماتت حاملاً به عند مخاضها فشق بطنها عنه فلذلك سمي قيصر ومعناه بلغتهم القاطع‏.‏ ويسمى أيضاً يولياس باسم الشهر الذي ولد فيه وهو يوليه خامس شهورهم ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس‏.‏ وكان الثلثمائة والعشرون المدبرون أمر الروم والشيخ الذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدموا عليهم ملكاً وأنهم يعينون للحروب في الجهات قائداً بعد آخر‏.‏ هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم وابتداء ملك القياصرة‏.‏ قالوا‏:‏ ولما رأى قيصر هذا الشيخ الذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والإقدام فكانوا يبعثونه قائداً إلى العساكر إلى النواحي فأخرجوه مرة إلى المغرب فدوخ البلاد ورجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه أن هذا سنة آبائهم منذ أحقاب وحدثوه بالسبب الذي فعلوا ذلك لأجله وهو أمر كيوس وأنه عهد لأولهم لا ينقض‏.‏ وقد دوخ فمقيوس الشرق وطوع اليهود ولم يطمع في هذا‏.‏ فوثب عليهم قيصر وقتلهم واستولى على ملك الروم منفرداً به وسمي قيصر‏.‏ وسار إلى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله‏.‏ ورجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر ومر ببلاد الأرمن فأطاعوه وكان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم‏.‏ فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان ونفر معه إلى مصر هو وأنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس‏.‏ وساروا جميعاً إلى مصر ولقيتهم عساكرها واشتد الحرب فحصر بلادهم وكادت الأرمن أن ينهزموا فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكان لهم الظفر واستولوا على مصر‏.‏ وبلغ الخبر إلى قيصر فشكر أنظفتر حسن بلائه واستدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده‏.‏ وكان أنطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل بقيصر وشكا بأن هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس فتحيل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموماً‏.‏ فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم وإنما كنت ناصحاً لقائدهم فمقيوس بالأمس وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب فحسن موقع كلامه من قيصر ورفع منزلته وقدمه على عساكره لحرب الفرس‏.‏ فسار إليه أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر إلى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه‏.‏ واستقام الملك لهرقانوس وكان خيراً إلا أنه كان ضعيفاً عن لقاء الحروب فتغلب عليه أنظفتر واستبد على الدولة وقدم ابنه فسيلو ناظراً في بيت المقدس وابنه هيردوس عاملاً على جبل الخليل‏.‏ وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه وامتلأ أهل الدولة منهم حسداً وكثرت السعاية فيهم‏.‏ وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمى حزقيا وكان شجاعاً صعلوكاً واجتمع إليه أمثاله فكانوا يغيرون على الأرمن وينالون منهم‏.‏ وعظمت نكايتهم فيهم فشكا عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن عم قيصر إلى هيردوس وهو بجبل الخليل ما فعله حزقيا وأصحابه في بلادهم‏.‏ فبعث هيردوس إليهم شيرئة فكبسوهم وقتل حزقيا وغيره منهم‏.‏ وكتب بذلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه‏.‏ ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا عند هرقانوس وطلبوه في القصاص منه فأحضروه في مجلس الأحكام وأحضر السبعين شيخاً من اليهود وجاء هيردوس متسلحاً ودافع عن نفسه وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ ففصلوا المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس ولحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدمه سفيوس على عمله‏.‏ ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم فكتب له بذلك وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغزة ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح وأن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللاذقية وأعمالها وما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عداوات الفرات لأن فمقيوس كان يتعدى عليهم في ذلك وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان وعلقت في أسوار صور وصيدا واستقام أمر هرقانوس‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ثم قتل قيصر ملك الروم وأنظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه‏.‏ أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله وملك وجمع العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيت ففتحها‏.‏ ثم سار إلى القدس وطالبهم بسبعين بدرة من الذهب فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها‏.‏ وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيا الذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس فأجابهم إلى ذلك فدشوا إلى ساقيه سماً فقتله‏.‏ وجاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعاً قتل هرقانوس فكفه فسيلو عن ذلك‏.‏ وجاء كيساوس من مقدونية إلى صور ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من مداخلة اليهود في قتل أنظفتر فأذن لهم في قتله فقتلوه‏.‏ ثم زحف كينانوس ابن أخي قيصر وقائده أنطونيوس في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر فلقيهم قريباً من مقدونية فظفرا به وقتلاه وملك كينانوس مكان عمه وسمي أغسطس قيصر باسم عمه‏.‏ فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر وسأل تجديد العهد لهم وأن يطلق السبي الذي سبي منهم أيام كيساوس وأن يرد اليهود إلى بلاد يونان وأثينة وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر فأجابه إلى ذلك كله‏.‏ وسار أنطيانوس وأغسطس إلى بلاد الأرمن بدمشق وحمص فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر وكانت ساحرة فأسأمته وتزوجها وحضر عند هرقانوس ملك اليهود‏.‏ وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيلو وتظلموا منهما وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها وأمر أنطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين وقتل منهم‏.‏ ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس وسار أنطيانوس إلى بلاد الفرس فدوخها وعاث في نواحيها وقهر ملوكها وقفل إلى رومة‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ وفي خلال ذلك لحق أنطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس وضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب وثمانمائة جارية من بنات اليهود ورؤسائهم يسبيهن له على أن يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه إليه ويقتل هيردوس وأخاه فسيلو فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك وسار في العساكر وفتح بلاد الأرمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم‏.‏ وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس مورياً بالصلاة في بيت المقدس والتبرك بالهيكل‏.‏ حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل وبادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه وتورط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم وامتنعوا على القائد وفسد ما كان دبره في أمر أنطقنوس‏.‏ فرجع إلى إستمالة هرقانوس وهيردوس وطلب الطاعة منهم للفرس وأنه يتلطف لهم عند الملك في إصلاح حالهم فصغى هرقانوس وفسيلو إلى قوله وخرجوا إليه وارتاب هيردوس وامتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيلو من ليلته وقيد هرقانوس واحتمله إلى بلاده وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهنونة‏.‏ ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال وأحسن إليه إلى أن استدعاه هيردوس كما يأتي بعد‏.‏ وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع أنطقنوس ليملك فخرج هيرودوس عن القدس إلى جبل الشراة فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف وسار إلى مصر يريد قيصر فأكرمته كالبطرة ملكة مصر وأركبته السفن إلى رومية‏.‏ فدخل بها أنطيانوس إلى أوغسطس قيصر وخبره الخبر عن الفرس والقدس فملكه أوغسطس وألبسه التاج وأركبه في رومية في في زي الملك والهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملكه‏.‏ واحتفل أنطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية وكتبوا له العهد في ألواح من نحاس ووضعوا ذلك اليوم التاريخ وهو أول ملك هيردوس‏.‏ وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس وفارقه من أنطاكية وركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس فخرج أنطقنوس إلى جبال الشراة للإستيلاء على عيال هيردوس وأقام على حصار الحصن‏.‏ وجاء هيردوس فحاربه وخرج يوسف من الحصن من ورائه فانهزم أنطقنوس إلى القدس وهلك أكثر عسكره‏.‏ وحاصره هيردوس وبعث أنطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه وأقام هيرودوس على حصاره حتى جاءه الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس وقتله ودوخ بلادهم‏.‏ وإنه عاد ونزل الفرات‏.‏ فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو ومن تبعهم من الأرمن وسار للقاء أنطيانوس وبلغه وهو بدمشق أن أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس وأن العساكر انفضت ورجعوا إلى دمشق وجاء سيساو منهزماً قائد أنطيانوس بالعساكر‏.‏ وتقدم هيردوس وقد خرج أنطقنوس للقائه فهزمه وقتل عامة عسكره واتبعه إلى القدس‏.‏ ووافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياماً ثم اقتحموا البلد وتسللوا صاعدين إلى السور وقتلوا الحرس وملكوا المدينة وأفحش سياسو في قتل اليهود‏.‏ فرغب إليه هيردوس في الإبقاء‏.‏ وقال له‏:‏ إذا قتلت قومي فعلى من تملكني فرفع القتل عنهم ورد ما نهب وقرب إلى البيت تاجاً من الذهب وضعت فيه وحمل إليه هيردوس أموالاً‏.‏ ثم عثروا على أنطيانوس وقد كان سار من الشام إلى مصر فجاءه بانطقنوس هنالك ولحق بهم هيردوس وسأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله واستبد هيردوس بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناي والبقاء لله وحده‏.‏ انقراض ملك بني حشمناي وكان أول ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الذي احتمله الفرس وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته ورغبه في الكهنونية التي كان عليها فرغب وحذره ملك الفرس من هيردوس وعزله اليهود الذين معه وأراه أنها خديعة وأنه العيب الذي به يمنع الكهنونية فلم يقبل شيء من ذلك‏.‏ وصغى إلى هيردوس وحسن ظنه به وسار إليه وتلقاه بالكرامة والأعطاء وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة‏.‏ وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر وابن أخيه أرستبلوس‏.‏ وكانت بنتها منه مريم تحت هيردوس فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله فخبرتاه بذلك وأشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره فخاطبه هرقانوس في ذلك وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج ب إلى أحيائهم‏.‏ وكان حامل الكتاب من اليهود مضغناًً على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب ماله فوضع الكتاب في يد هيردوس فلما قرأه رده إليه وقال‏:‏ أبلغه إلى ملك العرب وأرجع الجواب إلي‏.‏ فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس وأنه أسعف وبعث الرجال فألقاهم بوصلك إلي‏.‏ فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الذي عينه وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين شيخاً‏.‏ وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه فلم يحر جواباً وقامت عليه الحجة وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره وأربعين من ملكه وهو آخر ملوك بني حشمناي‏.‏ وكان للإسكندر بن أرستبلوس ابن يسمى أرستبلوس وكان من أجمل الناس صورة وكان في كفالة أمه الإسكندرة وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه‏.‏ وكان هيردوس يغص به وكانت أخته وأمهما يؤملاه أن يكون كوهناًً بالبيت مكان جده هرقانوس وهيردوس يريد نقل الكهنونية عن بني حشمناي وقدم لها رجلاً من عوام الكهنونية وجعله كبير الكهنونية‏.‏ فشق ذلك على الإسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس‏.‏ وكان بين الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة وطلبت منها أن تشفع زوجها أنطيانوس في ذلك إلى هيردوس فاعتذر له هيردوس بأن الكواهن لا تعزل ولو أردنا ذلك فلا يمكننا أهل الدين من عزله‏.‏ فبعثت بذلك الإسكندرة ودست الإسكندرة إلى الرسول الذي جاء من عند أنطيانوس وأتحفته بمال فضمن لهم أن أنطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه‏.‏ ورجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك‏.‏ ووصف له من جماله وأغراه باستقدامه فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس وهدده بالوحشة إن منعه فعلم أنه يريد منه القبيح فقدمه كهنوناً وعزل الأول واعتذر لأنطيانوس بأن الكوهن لا يمكن سفره واليهود تنكر ذلك‏.‏ فأغفل أنطيانوس الأمر ولم يعاود فيه‏.‏ ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها فأطلع على كتبها إلى ساحل يافا وأن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي وابنتها على هيئة الموتى فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما‏.‏ ثم بلغه أن أرستبلوس حضر في عيد المظال فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس وازدحم الناس عليه وظهر من ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه فغص بذلك وأعمل التدبير في قتله‏.‏ فخرج في متنزه له باريحاء في نيسان واستدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون‏.‏ وعمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض‏.‏ فاغتم الناس لموته وبكى عليه هيردوس ودفنه‏.‏ وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره‏.‏ وتأكدت البغضاء بين الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق وبين أم هيردوس وأخته وكثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمها منه‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر وذلك أنه تزوج كلوبطرة وملك مصر وكانت ساحرة فسحرته واستمالته وحملته على قتل ملوك كانوا في طاعة الروم وأخذ بلادهم وأموالهم وسبي نسائهم وأموالهم وأولادهم‏.‏ وكان من جملتهم هيردوس وتوقف فيه خشية من أوغسطس قيصر لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع في الآخرين‏.‏ فحمله على الانتقاض والعصيان ففعل وجمع العسكر واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى قتال العرب وكانوا خالفوا عليه فمضى هيردوس لذلك ومعه أنيثاون قائد كلوبطرة وقد دست له أن يجر الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل‏.‏ وثبت هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير‏.‏ ورجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له وامتنع العرب من ذلك فسار إليهم وحاربهم ثم استباحهم بعد أيام ومواقف بذلوا وجمعوا له الأموال وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع‏.‏ وكان أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة وكانت بينه وبين أوغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله وسار إلى مصر فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته ولم يمكنه التخلف عن لقائه‏.‏ فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمه وأخته إلى قلعة الشراة لنظر أخيه فرودا وبعث بزوجه مريم وأمه الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج أخته يوسف ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما وعهد إليها بقتل زوجته وأمها أن قتله قيصر‏.‏ ثم حمل معه الهدايا وسار إلى قيصر أوغسطس وكانت تحقد له صحبة أنطيانوس فلما حضر بين يديه عنفه وأزاح التاج عن رأسه وهم بعقابه‏.‏ فتلطف هيردوس في الاعتذار وأن موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي ولم تكن موالاتي له في عداوتك ولا في حربك‏.‏ ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت في ملوم فإن الوفاء شأن الكرام‏.‏ فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي ولا نظري وإن أبقيتني فأنا محل الصنيعة والشكر فانبسط أوغسطس لكلامه وتوجه كما كان وبعثه على مدمته إلى مصر فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونقل‏.‏ فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس وسار إلى رومية‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ولما عاد هيردوس إلى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهن فعادت زوجته مريم وأمها من حصن الإسكندرونة وفي خدمتها يوسف زوج أخته وسوما الصوري وقد كانا حدثا المرأة وأمها بما أسر إليهما هيرودس وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له‏.‏ وبينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما الصوري في ملاحات جرت بينهما ولم يصدق ذلك هيردوس للعداوة والثقة بعفة الزوجة‏.‏ ثم جرى منها في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسر إلى سوما وزوج أخته فقويت عنده الظنة بهم جميعاً‏.‏ وإن مثل هذا السر لم يكن إلا لأمر مريب وأخذ في إخفائها وإقصائها ودست عليه أخته بعض النساء تحدثه بأن زوجته داخلته في أن تستحضر السم وأحضره فجرب وصح وقتل للحين صهره يوسف وصاحبه سوما‏.‏ واعتقل زوجته ثم قتلها وندم علي ذلك ثم بلغه عن أمها الإسكندرة مثل ذلك فقتلها‏.‏ وولى على أدوم مكان صهره رجلاً منهم اسمه كرسوس وزوجه أخته فسار إلى عمله وانحرف عن دين التوراة والإحسان الذي حملهم عليه هرقانوس وأباح لهم عبادة صنمهم وأجمع الخلاف وطلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله وأنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثنتي عشرة سنة‏.‏ فقام هيردوس في ركائبه وبحث عنه فحضر وطالبه ببني حشمناي الذين عنده فأحضرهم فقتله وقتلهم وأرهف حده وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم اتهمهم بالإنكار عليه فأذعن له الناس واستفحل ملكه وأهمل المراعاة لوصاية التوراة وعمل في بيت المقدس سوراً واتخذ متنزه لعب وأطلق فيه السباع‏.‏ ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفترسهم‏.‏ فنكر الناس ذلك وأعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم‏.‏ وكان يمشي متنكراً للتجسس على أحوال الناس فعظمت هيبته في النفوس‏.‏

وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربانيون بما تقدم لهم في ولايته وكان لطائفة العباد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضاً‏.‏ كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثاً وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له وأخبره وهو ملك بطول مدته في الملك فدعا له ولقومه‏.‏ وكان كلفاً ببناء المدن والحصون‏.‏ ومدينة قيسارية من بنائه‏.‏ ولما حدثت في أيامه المجاعة شمر لها وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعاً وهبة وصدقة‏.‏ وأرسل في الميرة من سائر النواحي وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أن يحملوا الميرة إلى بيت المقدس فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز وعلى الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة وفرق على خمسين ألفاً قصدوه من غير ملته فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ولما استفحل ملكه وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما بناه سليمان بن داود لأنهم لما رجعوا إلى القدس بإذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه فلم يتم على حدود سليمان‏.‏ ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولاً بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل الهدم وتطول المدة وتعرض القواطع والموانع‏.‏ فأعد الآلات وأكمل جمعها في ست سنين ثم جمع الصناع للبناء وما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف‏.‏ وعين ألفاً من الكهنة يتولون القدس الأقدس الذي لا يدخله غيرهم‏.‏ ولما تم له ذلك شرع في الهدم فحصل لأقرب وقت ثم بنى البيت على حدوده وهيئته أيام سليمان وزاد في بعض المواضع على ما أختاره ووقف عليه نظره فكمل في ثمان سنين ثم شرع في الشكر لله تعالى على ما هيأ له من ذلك فقرب القربان واحتفل في الولائم وإطعام الطعام‏.‏ وتبعه الناس في ذلك أياماً فكانت من محاسن دولته‏.‏ قتيلة السم أحدهما الإسكندر والآخر أرستبلوس وكانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم فلما وصلا وقد قتل أمهما حصلت بينه وبينهما الوحشة وكان له ولد آخر اسمه أنظفتر على اسم جده وكان قد أبعد أمه راسيس لمكان مريم فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه قدم ابنها أنظفتر وجعله ولي عهده وأخذ في السعاية على إخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما‏.‏ واتفق أن سار إلى أوغسطس قيصر ومعه ابنه إسكندر فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على براءته فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس وقسم القدس بين ولده الثلاثة ووصاهم ووصى الناس بهم‏.‏ وعهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك‏.‏ وأنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما وقد داخل في ذلك عمه قدودا عمته سلومنت فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما‏.‏ وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور وكانت بنته تحت الإسكندر منهما فجاء إلى هيردوس مظهراً السخط على الإسكندر والإنحراف عنه‏.‏ وتحيل في إظهار جراءتهما وأطلعه على جلية الحال وسعاية أخيه وأخته فانكشف له الأمر وصدقه وغضب على أخيه قدودا فجاء إلى أرسلاوش وأحضره عند هيردوس حتى أخبره بمصدوقية الحال ثم شفعه فيه‏.‏ وأطلق ولديه ورضي عنهما وشكر لأرسلاوش من تلطفه في تلافي هذا الأمر وانصرف إلى بلده‏.‏ ولم ينف وما زال يغري أباه ويدس له من يغريه حتى أسخطه عليهما ثانية واعتقلهما وأمضى بهما في بعض أسفاره مقيدين ونكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه‏:‏ المنكر علي من المدبر بن عليك وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالاً على قتلك فأنزل هيرودس بهما العقاب ليتكشف الخبر ونما بأن ذلك الرجل معه ولدغه العقاب وأقر على نفسه وقتل هو وأبوه والحجام‏.‏ ثم قتل هيردوس ولديه وصلبهما على مصطبة‏.‏ وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر ولابنه أرستبلوس ثلاثة من الولد‏:‏ أعراباس وهيردوس وأستروبلوس‏.‏ ثم ندم هيردوس على قتل ولديه وعطف على أولادهما فزوج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوج ابنة ابنه أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر وأمر أخاه قدودا وابنه أنظفتر بكفالتهما والإحسان إليهما فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن‏.‏ وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر ونما الخبر إليه بأن أخاه قدودا يريد قتله فسخطه وأبعده وألزمه بيته‏.‏ ثم مرض قدودا واستعد أخاه هيردوس ليعوده فعاد ثم مات‏.‏ فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نما إليه فعاقب جواريه‏.‏ فأقرت إحداهما بأن أنظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس أم أنظفتر يدبران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر فأقر بمثل ذلك‏.‏ وإنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة قدودا فأحضرت فأقرت بأن قدودا أمرها عند موته بإراقته وأنها أبقت منه قليلاً يشهد لها إن سئلت‏.‏ فكتب هيردوس إلى ابنه أنظفتر بالقدوم فقدم مستريباً بعد أن أجمع على الهروب فمنعه خدم أبيه‏.‏ ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول أوغسطس وقدم كاتبه نيقالوس‏.‏ وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل إليهما عن أنظفتر فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة وأحضر بقية السم وجرب في بعض الحيوانات فصدق فعله‏.‏ فحبس هيردوس إبنه أنظفتر حتى مرض وأشرف على الموت وأسف على ما كان منه لأولاده فهم بقتل نفسه فمنعه جلساؤه وأهله وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك فهم أنظفتر بالخروج من محبسه ومنع وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل‏.‏ ثم هلك بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه‏.‏ وعهد بالملك لابن أركلاوش وخرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس وقرأ عليهم العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه فبايعوا له وحمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب مرصع بالجواهر والياقوت وعليه ستور الديباج منسوجة بالذهب وأجلس مسنداً ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الأشراف والرؤساء ومن خلفه الخدم والغلمان وحواليه الجواري بأنواع الطيب إلى أن اندرج في وقام أركلاوش بملكه وتقرب إلى الناس بإطلاق المسجونين فاستقام أمره وانطلقت الألسنة بذم هيردوس والطعن عليه‏.‏ ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم فساروا إلى قيصر شاكين بذلك وعابوه عنده بأنه ولى من غير أمره‏.‏ وحضر أركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع دعاويهم وأشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر وأعاده إلى القدس‏.‏ وأساء السيرة في اليهود وتزوج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها فماتت لوقتها‏.‏ ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائداً من الروم إلى المقدس فقيد أركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته وولى على اليهود بالقدس أخاه أنطيفوس وكان شراً منه واغتصب امرأة أخيه فيلقوس وله منها ولدان ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية‏.‏ وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم‏.‏ وهذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم‏.‏ وفي دولة أنطيفوس هذا مات قيصر أوغسطس فملك بعده طبريانوس وكان قبيح السيرة‏.‏ وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا فقتل منهم جماعة فأذنوا بحربه وقاتلوه وهزموه‏.‏ وبعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس وحمله مقيداً‏.‏ ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود أغرباس ابن أخيه أرستبلوس المقتول‏.‏ وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيرون وكان أشر من جميع من تقدمه‏.‏ وأمر أن يسمى إلاهو وبنى المذبح للقربان وقرب وأطاعته الناس إلا اليهود وبعثوا إليه في ذلك أفيلو الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود‏.‏ ثم قبحت أحواله وساءت أفعاله وثارت عليه دولته فقتلوه رموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب‏.‏ ثم ملك بعده قلديوش قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس وهدم المذابح التي كان نيروش بناها‏.‏ وكان أغرباس حسن السيرة معظماً عند القياصرة وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته‏.‏ وملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود وملك عشرين سنة وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن وظهرت الخوارج والمتغلبون وانقطعت السبل وكثر الهرج داخل المدينة في القدس وكان الناس يقتل بعضهم بعضاً في الطرقات يحملون سكاكين صغاراً محدين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك وخرج كثير من الناس عن المدينة فراراً من القتل‏.‏ وهلك ولد طبريوس قيصر ونيرون من بعده وملك على الروم فيلقوس قيصر فسعى بعض الشرار عنده بأن هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمون على الروم‏.‏ فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم واشتد البلاء على اليهود وطالت الفتن فيهم‏.‏ وكان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عناني‏.‏ وكان له ابن اسمه ألعازار وكان ممن خرج من القدس وكان فاتكاً مصعلكاً‏.‏ وانضم إليه جماعة من الأشرار وأقاموا يغيرون على بلاد اليهود والأرمن وينهبون ويقتلون وشكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة‏.‏ فلم يرجع إلى القدس إلا بعد حين‏.‏ واشتد قائد الروم ببيت المقدس على اليهود وكثر ظلمه فيهم فأخرجوه عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعاً من رومية ومعه قائدان من الروم فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود ومضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فليقوس وأنهم عازمون على الخلاف‏.‏ وتلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر ويعتذر منه فامتنع ألعازار بن عناني وأبى إلا المخالفة وأخرج القربان الذي كان بعثه معه نيرون قيصر من البيت ثم عمد إلى الروم الذين جاؤوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا وقتل القائدين ونكر ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب ألعازار وبعثوا إلى أغرباس‏.‏ وكان خارج القدس‏.‏ فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل فكانت الحرب بينهم وبين ألعازار سجالاً ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة وعاث في البلد وخرب قصور الملك ونهبها وأموالها وذخائرها‏.‏ وبقي أغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ خارج المقدس وبلغهم أن الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق ونواحيها وبقيسارية فساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن‏.‏ ثم سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخبره الخبر فامتعض لذلك وبعث إلى كسنيناو قائده على الأرمن وقد كان مضى إلى حرب الفرس فدوخها وقهرهم وعاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاءه عهد قيصر بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس فجمع العساكر وسار وخرب كل ما مر عليه‏.‏ ولقيه ألعازار الثائر بالقدس فانهزم ورجع ونزل كسنيناو قائد الروم فأثخن فيهم‏.‏ وارتحل كسنيناو إلى قيسارية وخرج اليهود في أتباعهم فهزموهم ولحق كسنيناو أغرباس بقيصر قيرش فوافقوا وصول قائده الأعظم أسبسيانوس عن بلاد المغرب‏.‏ وقد فتح الأندلس ودوخ أقطارها فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود وأمره أن يستأصلهم ويهدم حصونهم فسار ومعه ابنه طيطوش وأغرباس ملك اليهود وانتهوا إلى أنطاكية وتأهب اليهود لحربهم وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها وكان ابنه ألعازر كهنون في بلاد أدوم وما يليها إلى أيلة‏.‏ وكان يوسف بن كريون كهنون طبيرية وجبل الخليل وما يتصل به‏.‏ وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار إلى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونية‏.‏ وعمر كل منهم أسوار حصونه ورتب مقاتلته وسار أسبسيانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن وأقام‏.‏ وخرج يوسف بن كريون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه واستولى عليه‏.‏ وبعث أهل طبيرية من ورائه إلى الروم فاستامنوا إليهم فزحف يوسف فتابوأ وقتل من وجد فيها من الروم وقبل معذرة أهل طبرية وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية فزحف إليه أسبسيانوس من عكا في أربعين ألف مقاتل من الروم ومعه أغيرتاس ملك اليهود‏.‏ وسارت معهم الأمم من الأرمن وغيرهم إلا أدوم فإنهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس‏.‏ ونزل أسبسيانوس بعساكره على يوسف بن كريون ومن معه بطبرية فدعاهم إلى الصلح فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس‏.‏ ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن فاستلحمهم حتى قل عددهم وأغلقوا الحصن‏.‏ فقطع عنهم الماء خمسين ليلة ثم بيتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم وأفلت يوسف بن كريون ومن معه من الغل فامتنعوا ببطن الأعراب وأعطاهم أسبسيانوس الأمان فمال إليه يوسف وأبى القوم إلا أن يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله‏.‏ فوافقهم على رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضاً ولم يبق من يخشاه فخرج إلى أسبسيانوس مطارحاً عليه‏.‏ وحرضه اليهود على قتله فأبى واعتقله وخرب أعمال طبرية وقتل أهلها ورجع قال ابن كريون‏:‏ وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة‏.‏ وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه يوحنان وكان مرتكباً للعظائم واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة والنهب والقتل‏.‏ فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس وتألف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم‏.‏ فتحكم على أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عناني الكهنون الأعظم ثم عزله واستبدل به رجلاً من غواتهم وحمل الشيوخ على طاعته فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهتم‏.‏ فاجتمع اليهود إلى عناني الكهنون وحاربهم يوحنان وتحصنوا في المقدس وراسله عناني في الصلح فأبى وبعث إلى أدوم يستجيشهم فبعثوا إليه بعشرين ألفاً منهم فأغلق العناني أبواب المدينة دونهم وحاط بهم من الأسوار ثم استغفلوه وكبسوا المدينة واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحواً من خمسة آلاف وصادروا أهل النعم على أموالهم وبعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم وقتل من وجد منهم‏.‏ وبعث أهل القدس في استدعاء اسبسيانوس وعساكره فزحف من قيسارية حتى إذا توسط الطريق خرج يوحنان من القدس وامتنع ببعض الشعاب فمال إليه اسبسيانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فقتلوهم‏.‏ ثم سار إلى بلاد أدوم ففتحها وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضاً وعمر جميع ما فتح من البلاد ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير إلى القدس‏.‏ ورجع يوحنان أثناء ذلك من الشعاب فغلب على المدينة وعاث فيهم بالقتل وتحكم في أموالهم وأفسد حريمهم‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنان ثائر آخر اسمه شمعون واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحواً من عشرين ألفاً وبعث إليه أهل أدوم عسكراً فهزمهم واستولى على الضياع ونهب الغلال وبعث إلى إليه المدينة فردها يوحنان من طريقها وقطع من وجد معها‏.‏ ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى أدوم فحاربهم وهزمهم وعاد إلى القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنان داخلها ولجأوا إلى الهيكل وحاربوا يوحنان فغلبهم وقتل منهم خلقاً فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان فدخل ونقض العهد وفعل أشر من يوحنان‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ ثم ورد الخبر إلى اسبسيانوس وهو بمكانه من قيسارية بموت قيروش قيصر وأن الروم ملكوا عليهم مضعفاً اسمه نطاوس فغضب البطارقة الذي مع اسبسيانوس وملكوه وسار إلى رومة وخلف نصف العسكر مع ابنه طيطش وقدم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الذي ملكه الروم فهزم وقتل‏.‏ وسار ورجع طيطش إلى قيسارية إلى أن ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات وقتل الكهنونية على المذبح وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل‏.‏ وكان يوحنان أخبث القوم وأشرهم‏.‏ ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أن نزل على القدس وركب إلى باب البلد يتخير المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم فصموا عنه وأكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه وخلص منهم بشدته فعبى عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتب العساكر والآلات للحصار‏.‏ واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم وبرزوا إلى الروم فانهزموا ثم عاودوا فظهروا ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا داخل يوحنان إلى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد‏.‏ وزحف طيطش وبرزوا إليه فردوه إلى قرب معسكره وبعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله فغضب طيطش وصنع كبشاً وأبراجاً من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم‏.‏ وكان يوحنان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة ومع شمعون عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من أدوم وبقية اليهود بالمدينة مع ألعازر وأعاد طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأول وملكه إلى الثاني فاصطلم اليهود بينهم وتذامروا واشتد الحرب وباشرها طيطش بنفسه‏.‏ ثم زحف بالآلات إلى السور الثاني فثلمه وتذامر اليهود فمنعوهم عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام‏.‏ وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة فامتنعوا فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريون فوعظهم ورغبهم في أمنة الروم ووعدهم وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة ومنعهم هؤلاء الرؤساء الخوارج وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلا السور الثالث‏.‏ وطال الحصار واشتد الجوع عليهم والقتل ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب‏.‏ ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربعة جهاته ونصب الآلات وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدة غايته واستأمن متاي الكوهن إلى الروم وهو الذي خرج في استدعاء شمعون فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونية والعلماء والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن ونكر ذلك ألعازر بن عناني ولم يقدر على أكثر من الخروج عرت بيت المقدس وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود وأكلوا الجلود والخشاش والميتة ثم أكل بعضهم بعضاً‏.‏ وعثر على امرأة تأكل ابنها فأصابت رؤساهم لذلك رحمة وأذنوا في الناس بالخروج فخرجت منهم أمم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام‏.‏ وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أوجوهر ضنة به وشعر بهم الروم فكادوا يقتلونهم ويشقون عنهم بطونهم وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور‏.‏ وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة واستماتوا في تلك الحال إلى الليل‏.‏ ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم من الغد فانهزموا إلى المسجد وقاتلوا في الحصن وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال‏.‏ ووقف ابن كريون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا وخرج جماعة من الكهنونية فأمنهم ومنع الرؤساء بقيتهم ثم باكرهم طيطش بالقتال من الغد فانهزموا الأقداس وملك الروم المسجد وصحنه واتصلت الحرب أياماً وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم وفر كثير‏.‏ ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه‏.‏ ونكر رؤساء الروم ذلك ودسوا من أضرم النار في أبوابه وسقفه‏.‏ وألقى الكهنونة أنفسهم جزعاً على دينهم وحزنوا واختفى شمعون ويوحنان في جبل صهيون وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي فقتلوا قائداً من قواد العسكر ورجعوا إلى مكان اختفائهم‏.‏ ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنان ملقياً بيده إلى طيطش فقيده وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان‏.‏ ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودرهم وطيباً فامتلأت يده منها ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى‏.‏ وأحصى الموتى في هذه الوقعة‏.‏ قال ابن كريون‏:‏ فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرين ألفاً وثمانمائة وقال غير مناحيم كانت عدتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار أو طرح إلى خارج الحصن وقتل في الطرقات ولم يدفن‏.‏ وقال غيره كان الذي أحصي من الموتى والقتلى ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف‏.‏ كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا‏.‏ وكان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة‏.‏ وأما الفرار بن عفان فقد كان خرج من القدس عندما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا‏.‏ فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصنها واجتمع إليه فل اليهود واتصل الخبر بطيطش وهو في أنطاكية فبعث إليه عسكراً من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياماً‏.‏ ثم نهض الكهنونية وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم‏.‏ وأما يوسف بن كريون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم بعدها على خبر وأراده طيطش على السكنى عنده برومة فتضرع إليه في البقاء بأرض القدس فأجابه إلى ذلك وتركه وانقرضت دولة اليهود أجمع‏.‏ والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه‏.‏ عيسى ابن مريم الخبر عن شأن عيسى ابن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثه ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الأقسة علي تدوين شريعته‏.‏ كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس‏.‏ وهو ماثان بن ألعازر بن اليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زروقابل بن سالات بن يوحنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون بن منشا بن حزقيا بن أحآز بن يوآش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمان بن داود صلوات الله عليهما‏.‏ ويوحنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل‏.‏ وهذا النسب نقلته من إنجيل متى‏.‏ وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم‏.‏ وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون وهذا بعيد لأن الزمان بين عمون وعمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد فإن أمون كان قبيل الخراب الأول وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني قريب من أربعمائة سنة‏.‏ ونقل ابن عساكر والظن أنه ينقل عن مسند أنه من ولد زريافيل الذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الذي حبسه بختنصر وولى عمه صدقياهو بعده كما مر‏.‏ وقال فيه عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زرافيل‏.‏ وعد نحواً من ثمانية آباء بأسماء عبرانية لا وثوق بضبطها وهو أقرب من الأول وفيه ذكر ماثان الذي هو شهرتهم ولم يذكره ابن إسحاق‏.‏ وكان عمران أبو مريم كهنوناً في عصره‏.‏ وكانت تحته حنة بنت فاقود بن فيل وكانت من العابدات وكانت أختها إيشاع ويقال خالتها تحت زكريا بن يوحنا‏.‏ ونسبه ابن عساكر إلى يهوشافاط خامس ملوك المقدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاط اثني عشر أباً أولهم يوحنا بأسماء عبرانية كما فعل في نسب عمران‏.‏ ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما‏.‏ ويقال بالمد والقصر من غير ألف وكان نبياً من بني إسرائيل صلوات الله عليهما‏.‏ ونقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجار مثان يعني ماثان من سبط داود وكان له ولدان يعقوب ويؤاقيم ومات فتزوج أمهما بعده مطنان ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان فولدت هالي من مطنان‏.‏ ثم تزوج ومات ولم يعقب فتزوج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم ونسب إلى هالي‏.‏ لأن من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه وأول ولد منهما ينسب إلى الأول‏.‏ فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان‏.‏ وإنما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان وهو ابن عم مريم لحا‏.‏ وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم‏:‏ يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم كانوا يسكنون بيت لحم‏.‏ فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها وتعلم النجارة حتى صار يلقب بالنجار‏.‏ وتزوج يؤاقيم حنة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريا بن يوحنا المعمدان وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها فدعوا الله وولد لها مريم‏.‏ فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان‏.‏ وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى‏.‏ قلت‏:‏ في التنزيل مريم ابنة عمران‏.‏ فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم وكان له اسمان‏.‏ وعن الطبري‏:‏ وكانت حنة أم مريم لا تحبل فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها حبيساً ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة إمامهم وكهنونهم فتنازعوا في كفالتها وأراد زكريا أن يستبد بها لأن زوجة إيشاع خالتها‏.‏ ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم فاقترعوا فخرجت قرعة زكريا عليها فكفلها ووضعها في مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب فيما قيل‏.‏ والظاهر أنها دفعتها إليهم بعد مدة إرضاعها فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها‏.‏ وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصه القرآن‏.‏ وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضاً عاقراً وطلب زكريا من الله ولداً فبشره بيحيى نبياً كما طلب لأنه قال يرثني ويرث من آل يعقوب وهم أنبياء فكان كذلك‏.‏ وكان حاله في نشوئه وصباه عجباً وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل وولاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس‏.‏ ثم أكرمه الله بالنبوة كما قصه القرآن‏.‏ وكان لعهده علي اليهود بالقدس أنطيقس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس باسم أبيه وكان شريراً فاسقاً واغتصب امرأة أخيه وتزوجها ولها ولدان منه ولم يكن ذلك في شرعهم مباحاً فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحيى بن زكريا المعروف بيوحنا ويعرفه النصارى بالمعدان فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه‏.‏ وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة‏.‏ وقد اختلف الناس هل كان أبوه حياً عند قتله فقيل‏:‏ إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه ففر أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجاً منها فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفين وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مر ذكره‏.‏ وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح‏.‏ وقال أبو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أن بختنصر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريا يغلي فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن دمه‏.‏ ويشكل أن يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق وأن ذلك كان بعد بختنصر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه‏.‏ وفي الإسرائيليات من جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به وأنه طلب ابنه يوحنا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم فهربت به أمه إلى الشقراء واختفت‏.‏ فطالب به أباه زكريا وهو كهنون في الهيكل فقال لا علم لي هو مع أمه فتهدده وقتله‏.‏ ثم قال‏:‏ بعد قتل زكريا بسنة تولى كهنونية الهيكل يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيردوس‏.‏ وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية وبين الناس في نبؤتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها‏.‏ وعند أهل السنة أن النبوة مختصة بالرجل قاله أبو الحسن الأشعري وغيره وأدلة الفريقين في أماكنها‏.‏ وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها وأنها تلد ولداً من غير أب يكون نبياً فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قادر على ما يشاء فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت‏.‏ وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار‏:‏ أن أمها حنة توفيت لثمان سنين من عمر مريم وكان من سنتهم أنها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل‏.‏ فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون ويردها إليهم فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها‏.‏ وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه فقال له زكريا‏:‏ هذه عذراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها فاحتملها متكرهاً بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه إلى أن خرجت يوماً تستسقي من العين فعرض لها الملاك أولاً وكلمها‏.‏ ثم عاودها وبشرها بولادة عيسى كما نص القرآن فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه فرجعت إلى ناصرة‏.‏ ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه فأخبرته بقول الملاك فلم يصدق‏.‏ وعرض له الملاك في نومه وأخبره أن الذي بها من روح القدس فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردها إلى بيتها‏.‏ ويقال‏:‏ إن زكريا حضر لذلك وأقام فيهما سنة اللعن الذي أوصى به موسى فلم يصبهما شيء وبرأهما الله‏.‏ ووقع في إنجيل متى أن يوسف خطب مريم ووجدها حاملاً قبل أن يجتمعا فعزم على فراقها خوفاً من الفضيحة فأمر في نومه أن يقبلها‏.‏ وأخبره الملاك بأن المولود منها من روح القدس‏.‏ وكان يوسف صديقاً وولد على فراشه إيشوع انتهى‏.‏

وقال الطبري‏:‏ كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها وفي رواية عنه أنه ابن خالها وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلا لحاجة الإنسان وإذا نفد ماؤهما فيملأن من أقرب المياه‏.‏ فمضت مريم يوماً وتخلف عنها يوسف ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد فتمثل لها جبريل بشراً‏.‏ فذهبت لتجزع فقال لها‏:‏ ‏"‏ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا ‏"‏ فاستسقاها‏.‏ وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت على عيسى فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجار وكان في مسجد بجبل صهيون وكان لخدمته عندهم فضل وكانا يجمرانه ويقمانه وكانا صالحين مجتهدين في العبادة‏.‏ ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه‏.‏ ثم سألها فردت الأمر إلى قدرة الله فسكت وقام بما ينوبها من الخدمة‏.‏ فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع وكانت أيضاً حبلى بيحيى فقالت لها‏:‏ إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك‏.‏ ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها‏.‏ فاحتملها يوسف إلى مصر وأخذها المخاض في طريقها فوضعته كما قصه القرآن واحتملته على الحمار وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به حتى بلغ اثنتي عشرة سنة‏.‏ وظهرت عليه الكرامات وشاع خبره فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب‏.‏ قال الطبري‏:‏ وفي خبر السدي أنها إنما خرجت من المسجد لحيض أصابها فكان نفخ الملاك وأن إيشاع خالتها التي سألتها عن الحمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة وأن الوضع كان في شرقي بيت لحم قريباً من بيت المقدس وهو الذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد‏.‏ قال ابن العميد مؤرخ النصارى‏:‏ ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الأكبر ولاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس قيصر‏.‏ وفي الإنجيل أن يوسف تزوجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل‏.‏ وأن جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم وجاؤوا إلى هيردوس يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له‏.‏ وحدثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره وأنه يولد ببيت لحم‏.‏ وسمع أوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان من ابن سنتين فما دونها وكان يوسف النجار قد أمر أن يخرج به إلى مصر فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة وظهر عليه الكرامات‏.‏ وهلك هيردوس الذي كان يطلبه وأمر بالرجوع إلى إيليا فرجعوا وظهر صدق شعيا النبي في قوله عنه‏:‏ من مصر دعوتك‏.‏ وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار حذراً من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار وسماه إيشوع‏.‏ وأنه لما بلغ سنتين وكان من أمر المجوس ما قدمناه حذر هيردوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم‏.‏ فخرج يوسف به وبأمه إلى مصر أمر بذلك في نومه وأقام بمصر سنتين حتى مات هيردوس ثم أمر بالرجوع فرجع إلى ناصرة وظهرت عليه الخوارق من إحياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه‏.‏ حتى إذا بلغ ثماني سنين كف عن ذلك‏.‏ ثم جاء يوحنان المعمدان من البرية وهو يحيى بن زكريا ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح‏.‏ وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة‏.‏ ثم خرج إلى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية‏.‏ واختار تلامذته الاثني عشر‏:‏ سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا وفيلبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني يهوذا الإسخريوطي‏.‏ وشرع في إظهار المعجزات ثم قبض هيردوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه فقتله ودفن بنابلس‏.‏ ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات وحلل وحرم وانزل عليه الإنجيل وظهرت على يديه الخوارق والعجائب‏.‏ وشاع ذكره في النواحي واتبعه الكثير من بني إسرائيل وخافه رؤساء اليهود على دينهم وتآمروا في قتله وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه‏.‏ قال‏:‏ وإنما فعلته لتتأسوا به‏.‏ وقال يعظهم‏:‏ ليكفرن بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثاً ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني‏.‏ ثم افترقوا‏.‏ وكان اليهود قد بعثوا العيون عليهم فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرأ منهم وتركوه وجاء يهوذا الإسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهماً‏.‏ وأراهم مكانه الذي كان يبيت فيه وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي قائد قيصر على اليهود وحضر جماعة الكهنونية وقالوا‏:‏ هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدعي الملك فاقتله‏!‏ وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله‏.‏ وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه وصلب وأقام سبعاً وجاءت أمه تبكي عند الخشبة‏.‏ فجاءها عيسى وقال‏:‏ ما لك تبكي قالت عليك‏!‏ قال إن الله رفعني ولم يصبني إلا خير وهذا شيء شبه لهم وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا‏.‏ فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي كما عين لهم من قبل‏.‏ وعند علماء النصارى أن الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حوارياً وإلى أرض السودان والحبشة - ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس - متى العشار وأندراوس إلى أرض بابل والمشرق توماس وإلى أرض أفريقية فيلبس وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحنا وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يوحنا وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم‏.‏ وسمع القيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله فأمرهم بالكف عن ذلك‏.‏ ويقال قتل بعضهم‏.‏ وانطلق الحواريون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض‏.‏ ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون ثم خلص وسار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس وأتبعه كثير من الناس وآمن به بعض نساء القياصرة وأخبرها بخبر الصليب فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة‏.‏ وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله من بعد ذلك يوحنان بن زبدي إلى رومة‏.‏ وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعثه إلى بعض أكابر الروم وكتب يوحنا بن زبدي إنجيله برومة ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم صيروها بيد إقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها‏.‏ فمن القديمة التوراة خمسة أسفار وكتاب يوشع بن نون وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة كتب وسفر بنيامين وسفر المقباسين ثلاثة كتب وكتاب عزرا الإمام وكتاب أشير وكتاب قصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود النبي وكتب ولده سليمان خمسة ونبوات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتاباً وكتاب يشوع بن شارخ‏.‏ ومن الحديثة كتب الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه‏.‏ وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه وكان ببيت المقدس يعقوب النجار وكان بالإسكندرية مرقص تلميذ بطرس وكان بييزنطية وهي قسطنطيينة أندرواس الشيخ وكان بأنطاكية‏.‏ وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك‏.‏ وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمون القرا بالقسيس وصاحب الصلاة بالجاثليق وقومة المسجد بالشمامسة والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب والقاضي بالمطران ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة إسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر وكان الأساقفة يسمون البطرك أباً والقسوس يسمون الأساقفة أباً فوقع الإشتراك في اسم الأب فاخترع اسم البابا لبطرك الإسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس ومعناه أبو الآباء فاشتهر هذا الاسم ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا‏.‏ ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة وجعل مكان بطرس أرنوس برومة وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب‏.‏ وقتله نيرون وولى بعده حنينيا وهو أول البطاركة عليها بعد الحواريين وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب إلى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد‏.‏ وجعل نيرون مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كيافا‏.‏ ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم إلى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية‏.‏ وكانت أم هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها‏.‏ وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحاً للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات‏.‏ فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم‏.‏ وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير ورفعتها عندها للتبرك بها وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة‏.‏ وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك‏.‏ وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلثمائة وثمان وعشرون سنة‏.‏ وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام‏.‏ ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه من الإيمان بالله وصفاته وحاش لله وللمسيح وللحواريين أن يذهبوا إليه وهو معتقدهم التثليث‏.‏ وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها ولا وقفوا على فهم معانيها مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم أذهب إلى أبي وأبيكم‏.‏ وقال افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامين‏.‏ كما أن أباكم الذي في السماء تام‏.‏ وقال له في الإنجيل‏:‏ إنك أنت الابن الوحيد‏.‏ وقال لشمعون الصفا أنك ابن الله حقاً فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أن عيسى ابن مريم من أب قديم‏.‏ وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح وتدرعت به فكان مجموع الكلمة والجسد ابناً وهو ناسوق كلي قديم أزلي‏.‏ وولدت مريم إلهاً أزلياً والقتل والصلب وقع على الجسد والكلمة ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت‏.‏ وأقاموا على هذه العقيدة ووقع بينهم فيها اختلاف وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية كان من أشدهم ابن دنصان ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقاً وظهر يونس الشميصاتي بطرك أنطاكية بعد حين أيام أفلوديس قيصر فقال بالوحدانية ونفى الكلمة والروح وتبعه جماعة على ذلك‏.‏ ثم مات فرد الأساقفة مقالته وهجروها ولم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين فتنصر ودخل في دينهم وكان باسكندرية أسكندروس البطرك وكان لعهده أريوس من الأساقفة وكان يذهب إلى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي‏.‏ وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أبي أريوس فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعاً لتسع عشرة من دولته وتناظروا‏.‏ ولما قال أريوس إن الابن حادث وأن الأب فوض إليه بالخلق‏.‏ وقال الإسكندروس بالخلق استحق الألوهية فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر أريوس‏.‏ وطلب الإسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلثمائة وأربعين أسقفاً وذلك في مدينة نيقية فسمى المجتمع مجتمع نيقية وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية وأسطانس بطرك أنطاكية ومقاريوس أسقف بيت المقدس‏.‏ وبعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم بعد الاختلاف الكثير على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً على رأي واحد فصار قسطنطين إلى قولهم وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك ونفي أريوس وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع ونصها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو‏:‏ نؤمن بالله الواحد الأحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى وبالأبن الوحيد إيشوع المسيح ابن الله ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وولد من مريم البتول وصلب أيام فيلاطوس ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الأحياء والأموات ونؤمن بروح الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين انتهى‏.‏ هذا هو اتفاق المجمع الأول الذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان ولا يتفق النصارى عليه وإنما يتفقون على حشر الأرواح ويسمون هذه العقيدة الأمانة‏.‏ ووضعوا معها قوانين الشرائع ويسمونها الهيمايون‏.‏ وتوفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس وأحب الملك أن يقدسها ويجمع الأساقفة لذلك وبعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية وحضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية واجتمعوا في صور وكان أوسانيوس الذي أخرجه إسكندروس مع أريوس من كنيسة إسكندرية‏.‏ وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة‏.‏ ونفي أريوس حينئذ وأوسانيوس وصاحبهما ولعنوا‏.‏ وجعله بطركاً بالقسطنطينية فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم أومانيوس على رأي أريوس فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الإسكندرية عن مقالة أريوس فقال أرمانيوس‏:‏ إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق العالم‏:‏ وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل‏.‏ فقال أثناس بطرك الإسكندرية‏:‏ وهذا الكلام أيضاً يقتضي أن الابن مخلوق وأنه خلق المخلوقات دون الأب‏.‏ لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيء لأنه مستعين بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمم فهو في ذاته خالق والله سبحانه منزه عن ذلك‏.‏ وإن زعم أريوس أن الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتم لأن الأب إنما له الإرادة فقط وللابن الاختراع فهو أتم‏.‏ فلما ظهر بطلان مقالة أريوس وثبوا على أرمانيوس المناظر عن مقالة أريوس وضربوه ضرباً وجيعاً وخلصه ابن أخت الملك ثم قدوا الكنائس وانفض الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أرمانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه ومات لسنتين من رياسته‏.‏ واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة وأن جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه وصدوا عن الحق في قولهم إن الأب مساو للابن في الجوهرية وكاد الملك أن يقبل منهم‏.‏ فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل ورجع‏.‏ واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم‏.‏ وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه فقال له بعض العلماء والحكماء‏:‏ لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضاً وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة والله يحب ذلك فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض على الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه‏.‏ ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة‏.‏ اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس بأن جسد المسيح بغير ناسوت وأن اللاهوت أغناه عنها مستدلين بما وقع في الإنجيل أن الكلمة صار لحماً ولم يقل صار إنساناً وجعلا من الإله عظيماً وأعظم منه والأب أفضل عظماً‏.‏ وقال‏:‏ إن الأب غير محدود في القوة وفي الجوهر فأبطلوا هذه المقالة ولعنوهما وأشادوا بكفرهما وزادوا في الأمانة التي قررها جماعة نيقية ما نصه‏:‏ ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب‏.‏ ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أوينقص منها‏.‏ ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس نوسق البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول‏:‏ إن مريم لم تلد إلهاً وإنما ولدت إنساناً وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إله حقيقة بل بالموهبة والكرامة‏.‏ ويقول بجوهرين وأقنومين وهذا الرأي الذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودس الأسقفين وكان من مقالتهما أن المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلي والابن الأزلي حل في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة‏.‏ وإنما الاتحاد بالمشيئة والإرادة فأثبتوا لله ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة‏.‏ وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك إسكندرية فكتب إلى بطرك رومة وهو أكليمس وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية وإلى يونالوس أسقف بيت المقدس فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع ولا التفت إلى قولهم‏.‏ فاجتمعوا في مدينة أفسيس في مائتين أسقفاً للنظر في مقالته فقرروا إبطالها ولعنوه وأشادوا بكفره‏.‏ ووجد عليهم يوحنا بطرك إنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم ووافق نسطوريوس ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدة واتفقوا على نسطوريوس وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلس فقبلها‏.‏ ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها وظهرت مقالته في نصارى المشرق وبفارس والعراق والجزيرة والموصل إلى الفرات‏.‏ وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفاً من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الإسكندرية لأنه كان يقول‏:‏ المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين‏.‏ وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين وأقنوم واحد فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه‏.‏ فأراد مرقيان قيصر قتله فأشارت البطارقة بإحضاره وجمع الأساقفة لمناظرته فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم‏.‏ وخاطبته زوج الملك فأساء الرد فلطمته بيدها وتناوله الحاضرون بالضرب‏.‏ وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأن مجمع خلقدونية هو الحق ومن لا يقبله يقتل‏.‏ ومر ديسقوروس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رأيه وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية وولى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية‏.‏ قال ابن العميد‏:‏ وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب‏.‏ وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه‏.‏ وقيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس وكان له تلميذ اسمه يعقوب فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه‏.‏ قال‏:‏ ومن جمع خلقدونية افترقت الكنائس والأساقفة إلى يعقوبية وملكية ونسطورية‏.‏ فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الذي قررناه أنفاً‏.‏ والملكية أهل الأمانة التي قررها جماعة نيقية وجماعة خلقدونية بعدهم وعليها جمهور النصرانية‏.‏ والنسطورية أهل المجمع الثالث وأكثرهم بالمشرق‏.‏ وبقي الملكية واليعقوبية يتعاقبون في الرياسة على الكراسي بحسب من يريدهم من القياصرة وما يختارونه من المذهبين‏.‏ ثم كان بعد ذلك بمائة وثلاثين سنة أوثلاث وستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسطانوس قيصر للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول بالتناسخ وينكر البعث‏.‏ ونقل عن أساقفة أنقرا والمصيصة والرها أنهم يقولون‏:‏ إن جسد المسيح فنطايسا‏:‏ فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها‏.‏ فقال البطرك‏:‏ إن كان جسد المسيح فني فقوله وفعله كذلك‏.‏ وقال الأسقف أقفسح‏:‏ إنما قام المسيح من بين الأموات ليحقق البعث والقيامة فكيف تنكر ذلك أنت وجمع لهم مائة وعشرين أسقفاً فأشادوا بكفره وأوجبوا لعنتهم ولعنة من يقول بقولهم‏.‏ واستقرت فرق النصارى على هذه الثلاثة‏.‏ الفرس الخبرعن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم إلى تمامه وانقراضه‏.‏ هذه الأمة من أقدم أمم العالم وأشدهم قوة وآثاراً في الأرض وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان الأولى منهما الكينية ويظهر أن مبتدأها ومبتدأ دولة التبابعة وبني إسرائيل واحد وأن الثلاثة متعاصرة‏.‏ ودولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر والساسانية الكسراوية ويظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام وهي التي غلب عليها المسلمون‏.‏ وأما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد وأخباره متعارضة‏.‏ ونحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك‏.‏ وأما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح وأن جدهم الأعلى الذي ينتمون إليه هو فرس‏.‏ والمشهور أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح وأرض إيران هي بلاد الفرس‏.‏ ولما عربت قيل لها إعراق‏.‏ هذا عند المحققين‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ‏.‏ وقيل إلى غليم بن سام‏.‏ ووقع في التوراة ذكر ملك الأهواز كردامر من بني غليم‏.‏ فهذا أصل هذا القول والله أعلم‏.‏ لان الأهواز من ممالك بلاد فارس‏.‏ وقيل‏:‏ إلى لاوذ بن إرم بن سام وقيل إلى أميم بن لاوذ وقيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق‏.‏ ويقال إن الساسانية فقط من ولد إسحاق وأنه يسمى عندهم وترك وأن جدهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك‏.‏ هكذا نقل المسعودي هذه الأسماء وهي كما تراه غير مضبوطة‏.‏ وفيما قيل‏:‏ إن الفرس كلهم من ولد إيران بن أفريدون الآتي ذكره وأن من قبله لا يسمون بالفرس والله أعلم‏.‏ وكان أول ما ملك إيران أرض فارس‏.‏ فتوارث أعقابه الملك ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة‏.‏ ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غرباً وباب الأبواب شمالاً‏.‏ وفي الكتب أن أرض إيران هي أرض الترك وعند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراس بن يافث وإخوتهم بنو مادي بن يافث وكانوا مملكة واحدة‏.‏ فأما علماء الفرس ونسابتهم فيأبون من هذا كله وينسبون الفرس إلى كيومرث ولا يرفعون نسبه إلى ما فوقه‏.‏ ومعنى هذا الاسم عندهم ابن الطين وهو عندهم أول ابن الطين وهو عندهم أول النسب‏.‏ هذا رأيهم وأما مواطن الفرس فكانت أول أمرهم بأرض فارس وبهم سميت‏.‏ ويجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام وهم فيما قال البيهقي الكرد والديلم والخزر والنبط والجرامقة‏.‏ ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة وسائر هؤلاء الأمم‏.‏ ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية‏.‏ وفي هذا الجيل على ما اتفق عليه